مقارنة بين التصوف والفلسفة.
ذهب عامة الباحثين في التصوف، من المتصوفة وغيرهم إلى:
- أن التصوف مذهب قديم قبل الإسلام، في الثقافات: الفارسية، والهندية، واليونانية.
- وأن المتصوفة المسلمين أخذوا أفكار وتعاليم المتصوفة القدماء وتأثروا بهم.
ومن الباحثين من رد أصل التصوف وبدايته إلى المصادر الأجنبية عن الإسلام، وأما الذين ردوه إلى أصل إسلامي، فإنهم لم ينكروا تأثره بالعناصر الأجنبية، في فترات لاحقة.
فقد اتفقوا على تأثر المتصوفة بالتصوف القديم، واختلفوا متى كان ذلك التأثر ؟.
هذا الاتفاق حمل الجميع على البحث في هذه المصادر، والمقارنة بين التصوف في الثقافات السابقة للإسلام، والتصوف في الإسلام، وقد عني بالبحث في هذه المقارنة كثير من الباحثين، مثل:
1-البيروني في كتابه عن الهند: "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة".
2-الدكتور عمر فروخ في كتابه: "التصوف في الإسلام".
3-الدكتور علي سامي النشار في كتابه: "نشأة الفكر الفلسفي".
4-إحسان إلهي ظهر في كتابه: "التصوف: المنشأ والمصادر".
5-الدكتور الشرقاوي في كتابه: "الاتجاهات الحديثة في دراسة التصوف الإسلامي".
والأفكار المقارنة عديدة، مثل: الفناء، والمحبة، والمعرفة، والمجاهدة.. إلخ.
ويكفي في هذا المقام أن نعرض لمقارنة واحدة، تفصح عن المسألة، وتكشف عن حقيقة التوافق بين التصوفين:
فقد رجع بعض الباحثين والمؤرخين، المختصين بعلوم الديانات القديمة: الهندية والفلسفية. من غير المتصوفة، بكلمة "صوفية" إلى أصل يوناني، هو كلمة: "سوفيا".
وكلمة "سوفيا" تعني بالعربية: الحكمة..
وأول من عرف بهذا الرأي: البيروني. في كتابه الآنف الذكر، وتبعه عليه جمع، حيث قال وهو يحكي اعتقادات الهنود:
"ومنهم من كان يرى الوجود الحقيقي للعلة الأولى فقط، لاستغنائها بذاتها فيه، وحاجة غيرها إليها، وأن ما هو مفتقر في الوجود إلى غيره، فوجوده كالخيال غير حق، والحق هو الواحد الأول فقط.
وهذا رأي (السوفية) وهم الحكماء، فإن (سوف) باليونانية الحكمة، وبها سمي الفيلسوف (بيلاسوبا)، أي محب الحكمة.
ولما ذهب في الإسلام قوم إلى قريب من رأيهم، سموا باسمهم، ولم يعرف اللقب بعضهم فنسبهم للتوكل إلى (الصفة)، وأنهم أصحابها في عصر النبي ، ثم صُحّف بعد ذلك، فصُيّر من صوف التيوس"(تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة ص27، وفي قول البيروني جواب لقول من قال: لو كان "صوفي" مأخوذ من "سوفيا" لقيل: "سوفي"، انظر التصوف في الإسلام، عمر فروخ ص24،29)
وبهذا قال كل من: المستشرق الألماني فون هامر، ومحمد لطفي جمعة، وعبد العزيز إسلامبولي، ذهبوا إلى ما ذكره البيروني آنفا.( انظر: التصوف المنشأ والمصادر، إحسان إلهي ظهير، ص33. قضية التصوف، المنقذ من الضلال، عبد الحليم محمود ص32)
وقال به الدكتور محمد جميل غازي: "الصوفية كما نعلم اسم يوناني قديم مأخوذ من الحكمة (صوفيا) وليس كما يقولون إنه مأخوذ من الصوف"( الصوفية الوجه الآخر، محمد جميل غازي، ص47)
ولهذا الرأي أدلة ترجحه، فمن ذلك:
أولا: اتحاد المدلول.
اتحاد مدلول الكلمتين:"سوفية"،"صوفية"؛ فمدلولهما: الحكمة.
فأما الأول فتقدم دليله من كلام البيروني.
فالكلمة:"سوف" يونانية، وترجمتها العربية هي: "الحكمة".
و"الفيلا سوف" هو: "محب الحكمة".
وأما الثاني فدليله: أن "الصوفي" عند الصوفية هو: "الحكيم"، وهو صاحب الحكمة.
وهم يكثرون من ذكره، ويجعلونه وصفا لازما للصوفي، فمن لم يكن حكيما فليس له حظ من اللقب، هكذا يقرر ابن عربي – وغيره – فيقول: "ومن شروط المنعوت بالتصوف: أن يكون حكيما ذا حكمة. وإن لم يكن، فلا حظ له من هذا اللقب"( الفتوحات المكية، ابن عربي، 22669)
فإذا كانت:
- "الحكمة" هي: "سوف"، و"الحكماء" هم: "السوفية".
- و"الحكمة" هي: "التصوف"، و "الحكماء" هم: "الصوفية".
فهل جاء هذا التوافق صدفة ؟!.
يقول نيكلسون:"بعض الباحثين من الأوربيين يردها إلى الكلمة الإغريقية: سوفوس، بمعنى ثيو صوفي"..( الصوفية في الإسلام، نيكلسون ص11)
وكلمة: "ثيوصوفي" الإغريقية تعني: الحكمة الإلهية. (ثيو = إله)، (صوفي = الحكمة).( كلمة "ثيو سوفي" يونانية، معناها الحكمة الإلهية، ثيو (Theism): الإله؛ سوفي (Sophy):الحكمة.. انظر: المعجم الفلسفي، صليبا، 1/360 (مادة: التوحيد)، المورد ص 879 (مادة Sophy) .)
وقد ذكر الدكتور النشار عن طائفة من الهنود القدامى، يعرفون باسم: "جيمنو صوفيا" ومعناه: الحكيم العاري. كانوا يقضون حياتهم في السياحة، متأملين الله تعالى.
وهذا أيضا مذهب يعتنقه الصوفية في الإسلام: السياحة، والتأمل.( نشأة الفكر الفلسفي، النشار، 3/42)
فهذا اتفاق في الاسم:"الحكيم"، واتفاق كذلك في نوع الأعمال المتعاطاة.
نعم، هذا التوافق بمفرده ليس دليلا على الانتساب، لكن جمع الأدلة بعضها إلى بعض، وقد سبق منها شيء ليس بالقليل، وتحليل مضمون تلك الأعمال بما يظهر التوافق، حتى في أدق التفاصيل: إثباتات برهانية، يصعب إهمالها.!!.
ثانيا: اتحاد الهدف.
هدف التصوف يوافق هدف الفلسفة، فكلاهما يرميان إلى التشبه بالإله، وهذا يتبين من تعريف "التصوف" و "الفلسفة":
ففي تعريف الفلسفة قال الجرجاني: "الفلسفة: التشبه بالإله بحسب الطاقة البشرية، لتحصيل السعادة الأبدية، كما أمر الصادق في قوله: (تخلقوا بأخلاق الله) ؛ أي تشبهوا به في الإحاطة بالمعلومات، والتجرد من الجسميات"( ليس بحديث، قال الألباني عنه : "لا نعرف له أصلا في شيء من كتب السنة، ولا في الجامع الكبير للسيوطي، نعم أورده في كتاب: تأييد الحقيقة العلية، (ق89/1) لكنه لم يعزه لأحد" شرح الطحاوية ص 120)
وفي تعريف التصوف:
- أورد الدكتور عبد الحليم محمود عن النوري قوله:"ليس التصوف رسما ولا علما، ولكنه خلق، لأنه لو كان رسما لحصل بالمجاهدة، ولو كان علما لحصل بالتعليم، ولكنه تخلق بأخلاق الله، ولن تستطيع أن تقبل على الأخلاق الإلهية بعلم أو رسم"( عبد الحليم محمود وقضية التصوف، المدرسة الشاذلية ص426)
- الغزالي يقول: "فالذي يذكر هو قرب العبد من ربه عز وجل في الصفات التي أمر فيها بالاقتداء والتخلق بأخلاق الربوبية، حتى قيل: تخلقوا بأخلاق الله"( الإحياء 4/324)
- وابن عربي يقول:
- "فاعلم أن التصوف تشبيه بخالقنا لأنه خلق فانظر ترى عجبا"( الفتوحات 2/266)
- والجيلي يقول: "ولهذا أمرنا السيد الأواه فقال: تخلقوا بأخلاق الله؛ لتبرز أسراره المودعة في الهياكل الإنسانية، فيظهر بذلك علو العزة الربانية، ويعلم حق المرتبة الرحمانية"( الإنسان الكامل 2/19)
- وجاء في اصطلاحات الصوفية للكاشاني: "التصوف: هو التخلق بالأخلاق الإلهية"( ص164)
فهذا المعنى عند الصوفية يتفق عليه حذاقهم، كالنوري، والغزالي، وابن عربي.
فالتشبه والتخلق أمرهما واحد هو: التمثّل.
- المتشبه بشيء ما: يتمثل صفاته.
- والمتخلق بخلق شيء ما: يتمثل صفاته.
وقد جرى تعديل مسّ شكل المصطلح، ولم يمسّ جوهره، كما جرى تعديل الاسم سابقا:
- فقوله: "التشبه". عدّل ليكون: "التخلق".
- وقوله: "بالإله". عدّل ليكون: "بأخلاق الله".
- وبعد أن كان مقيدا: "على قدر الطاقة". انتفى عنه القيد.
وهذه تعديلات شكلية، لا أثر لها؛ فالتشبه في معنى التخلق، فمؤداهما واحد في الفلسفة والتصوف، فكلاهما يقرر إمكانية الوصول إلى تحصيل الصفات الإلهية، بدليل:
أنهما يقولان بالحلول والاتحاد الذاتي، بين الإنسان والله تعالى سبحانه.
فالنهايات فيهما واحدة، والاختلاف في تسمية الطريق.
وأما التقييد فلا أثر له؛ لأنه إذا كانت الفلسفة تقرر قدرة الإنسان على الاتحاد بالله تعالى بواسطة تحصيل جميع الصفات، لم يعد لهذا التقييد معنى، إلا من جهة اختلاف قدرات البشر، فمنهم من يقدر على هذه المرتبة، ومنهم من لا يقدر.
وهذا التفاوت يقرره الصوفية كذلك، متفقين في ذلك مع الفلاسفة.
يتبع